منهجيّة تحليل قصيدة شعريّة : مقابلة خاصة مع ابن نوح، أمل دنقل

منهجية تحليل نصّ شعري: تكسير البنية


منهجيّة تحليل قصيدة شعريّة: تكسير البنية، مقابلة خاصة مَعَ ابن نوح، أمل دنقل

منهجية تحليل نصّ شعري: تكسير البنية



عرفت القصيدة العربية المعاصرة
ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين تحوّلات فنية وجماليّة استطاعت بِوَاسِطَتِهَا تَجَاوز
القصيدة العربية التقليدية، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ تكسير شكلها النمطي الصارم، وبنيتها الفنية المتوارثة
مُنْذُ أقدم العصور الأدبية، سَوَاء عَلَى مُسْتَوَى المعجم، أَوْ مُسْتَوَى الإيقاع، أَوْ مُسْتَوَى
الصورة، أَوْ مُسْتَوَى الدلالة… ويعتبر الشاعر المصري أمل دنقل من أبرز الشعراء اللَّذِينَ انخرطوا فِي هَذِهِ
المغامرة الفنية، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ مجموعة من دواوينه الشعرية الَّتِي نذكر مِنْهَا: البكاء
بَيْنَ يدي زرقاء اليمامة، أقوال جديدة عَنْ حرب البسوس، أوراق الغرفة (
8)…

إنّه
بِمُجَرَّدِ إلقاء نظرة سريعة عَلَى الشكل الطباعي للنصّ، نلاحظ أنّه يتكوّن من أسطر شعرية
متفاوتة من حَيْتُ الطول والقصر، كَمَا يَتَضَمَّنُ بياضات وفراغات، وعبارات مكتوبة عَلَى يسار
الصفحة… ولاشكّ أن هَذِهِ المُعْطَيات القليلة تعتبر مؤشرا كافيا يجعلنا نفترض مِنْ خِلَالِهِ أننا إزاء شكل شعري
جديد يكسر النموذج النمطي للقصيدة العربية التقليدية.

إذن،
مَا هِيَّ الأفكار والمضامين الَّتِي يدور حولها النصّ؟ وما هِيَ حقوله الدلالية؟ وما هِيَ
خصائصه الفنيّة؟ وإلى أيّ حدّ استطاع الشاعر مِنْ خِلَالِهِ أن يكسر البنية الفنية
للقصيدة العربية التقليدية؟




إِذَا
انطلقنا من عنوان النص
الشعري (مقابلة خاصة مَعَ ابن
نوح)،
وحاولنا استكناه أهَمُّ أبعاده الدلالية والإيحائية، فإننا نفترض أن
القصيدة تتحدّث عَنْ لقاء يتمّ بَيْنَ فريقين (أَوْ أكثر) قَد تكون الذات الشاعرة بصيغتها
الفردية (أَوْ الجماعية) طرفاً ضمنيّاً أَوْ صريحا فِيهِ. ويبدو أن هَذَا اللقاء لَا يخلو
من جسامة المغامرة وخطورة تفترضها طبيعته ونوعيته الخَاصَّة مَعَ شخصية مثيرة ذات
مرجعية تراثية: تاريخية ودينية؛ هِيَ شخصية ابن نوح عَلَيْهِ السلام بِكُلِّ مَا تثيره من
تداعيات وتناقضات درامية نتيجة ذَلِكَ الصراع المحتدم بَيْنَ آصرة العقيدة (الموقف
الديني)، وآصرة القرابة (الموقف الإنساني) لحظة حلول الطوفان، ومبادرة نوح عَلَيْهِ السلام عندئذ بدافع من
عاطفته الإنسانية (الأبوية) إِلَى ثني ابنه عَنْ قراره، لما عقد العزم عَلَى الاعتصام
بالجبل بدل ركوب السفينة رفقة أبيه وجموع الناجين ممن هم مَعَهُ عَلَى ظهرها. فَهَلْ تصحّ
هَذِهِ الافتراضات والملاحظات الأوليّة عَلَى المسار الَّذِي اختطه الشاعر لنصّه الشعري؟
أم أنّ هَذَا الأَخِير قَد عمد إِلَى توظيف مجموع هَذِهِ الوقائع والأحداث التاريخية
والدينية لقصة نوح عَلَيْهِ السلام عَلَى نَحْوَ مغاير للأصل؛ أي فِي سياقات دلالية وتعبيرية
جديدة ومختلفة استدعتها تجربته الشعرية الخَاصَّة؟



هَكَذَا
تقودنا هَذِهِ الأسئلة والافتراضات إِلَى ولوج عالم النصّ الشعري، وتدفعنا من ثمة إِلَى
تتبّع مساراته ومنعرجاته الدلاليّة الخاصّة، ومحاولة تكثيفها ضمن الوحدات التالية:


الوحدة الأُوْلَى (س: 1): الإخبار بوقوع حدث الطوفان فِي نبرة باعثة عَلَى
الشكّ والارتياب. وَهُوَ مَا يسمح للمتلقي بالاستفسار عَنْ الأسباب والحيثيات الداعية
إِلَى ذَلِكَ، بِحَيْثُ يفترض أن يطرح أسئلة من قبيل: من أَيْنَ، وكيف جاء هَذَا الطوفان؟
ولماذا؟ ومتى؟ وما طبيعة ومستوى العلاقة الَّتِي تربطه بنوح عَلَيْهِ السلام؟… إلخ؛


الوحدة الدلالية الثَّـانِيَة (س: 2/17): تهديد الطُوفان للمدينة بِكُلِّّ مكوناتها وتفاصيلها
المختلفة بالتلاشي والدمار، حَيْتُ المدينة تغرق تدريجيا فِي لجّة الماء المتصاعد، وَفِي
نبرة ساخرة يستعرض الشاعر مُنْذُ البداية كل مَا كَانَ يَبْدُو مجلّ لَا بهيبة السلطة وقوة
نفوذها معرّضا للضياع بفعل المدّ الجارف للطوفان: البنوك، التماثيل (أجدادنا
الخالدين)، بوابة السجن، دار الولاية، أروقة الثكنات الحصينة… وإذ يتابع الشاعر
ببصره العصافير وَهِيَ تجلو بَعِيدًاً عَنْ المدينة تتابع صور المعيش اليومي متلاحقة ببؤسها
وهشاشتها وأعطابها (يطفو الأثاث، لعبة الطفل، شهقة أم حزينة…)؛


الوحدة الثَّـالِثَة (س: 18/24): تصوير الخطر المتزايد للطوفان وآثاره المهولة عَلَى
المدينة وردود أفعال ساكنتها حيال هَذَا الخطب الطارئ. وهنا لَا يجد الحكماء – كَمَا ينعتهم
الشاعر فِي سخرية ملحوظة – بدّاً من الفرار نَحْوَ السفينة طلبا للنجاة بأنفسهم من هول
الطوفان، وَهُوَ الموقف الانهزامي الَّذِي يدينه الشاعر ضمنيا، وَالَّذِي تتقاسمه حفنة من
المتخاذلين والنفعيين التافهين (المغنّون، المرابون، قاضي القضاة، سائس خيل
الأمير…)؛


الوحدة الرَّابِعَة (س: 25/34): تناقض مواقف ساكنة المدينة بصدد مَا يهدّدهم من
دمار الطوفان المتعاظم خطره وتباين مواقفهم وأشكال مواجهتهم لزحفه. وهنا يكشف
الطوفان عَنْ موقفين متعارضين؛ الأوّل موقف من يسميهم الشاعر بالجبناء اللَّذِينَ لَا يرون
حلاّ للمعضلة الطارئة غير الفرار باتجاه السفينة، أَمَّا الموقف الثاني الَّذِي يتقاسمه
الشاعر مَعَ شباب المدينة، فيتمثل فِي مبادرة الشاعر وأصحابه إِلَى لجم جموح المياه
ببناء سدود الحجارة لعلهم بِذَلِكَ يحمون حَسَبَ تعبير الشاعر (… مهاد الصبا والحضارة)،
أَوْ (ينقذون الوطن)…


الوحدة الخَامِسَة (س: 35/47): موقف الشاعر من المصير النهائي للمدينة ومآلها
بعد حلول الطوفان. وفيها يفضي النصّ الشعري عِنْدَ نهايته إِلَى مَا حلّ بالشاعر، وَمَنْ هُمْ
فِي صفه من شباب المدينة الصامد فِي وَجْهِ الطوفان ومقاومة موجه العاتي، وَهُوَ مَا يصطلح
الشاعر عَلَى تسميته بقلبه الَّذِي غدا “وردة من عطن” من جراء مَا حلّ بِهِ من
“نسج الجروح ولعنة الشروح”، وَالَّذِي اختار لمصيره الأَخِير الرقاد فِي هدوء
فَوْقَ بقايا المدينة معرضاً عَنْ إغواء السفينة، رافضاً لدعوات صاحبها لَهُ بالفرار
والنجاة، ومصرّا كذلك عَلَى حبّ الوطن حَتَّى النهاية (بَعْدَ أَنْ قَالَ ” لَا”
للسفينة… وأحبّ الوطن…).





وبالتحوّل
إِلَى المعجم الشعري للنصّ
والنظر المتأمّل والدقيق إِلَى أبرز حقوله الدلالية انطلاقاً من مُسْتَوَى الصراع الَّذِي
يخوضه “ساكنة المدينة” ضد الطوفان، وطبيعة ومستوى المواجهة الَّتِي تقتضيها
هَذِهِ “المعركة”، وكَذَلِكَ خصوصيات المواقف المتباينة الَّتِي تتعلق عَلَى وجه
التحديد بـ: الفرار، أَوْ الصمود… يُمْكِنُنَا الوقوف عِنْدَ مَا يلي:


الألفاظ والعبارات الدالة عَلَى الفرار:
تفرّ العصافير، العصافير تجلو رويدا رويدا، الحكماء يفرون، يفرون، السفينة،
المغنون، المرابون، قاضي القضاة، راقصة المعبد، عشيق الأميرة، سيد الفلك…؛


الألفاظ والعبارات الدالة عَلَى الصمود:
كُنْت، كَانَ شباب المدينة، يلجمون جواد المياه الجامح، ينقلون المياه عَلَى الكتفين،
يستبقون الزمن، نحن اللَّذِينَ وقفنا، نتحدى الدمار، نأبى الفرار…





يتبيّن
مِنْ خِلَالِ مَا تقدّم من معطيات معجميّة، أن الصراع الَّذِي يعرضه النصّ الشعري يستلزم
طرفين تتناقض مواقفهما حد الاصطدام والمواجهة؛ فَفِي الوقت الَّذِي يقرّر الفريق الأول
(الحكماء، الجبناء) الهرولة باتجاه السفينة طلبا للنجاة الشخصية، يرفض الفريق
الثاني (شباب المدينة) الفرار من مقاومة خطر الطوفان، وَفِي مقدمة صفهم الشاعر الَّذِي
أعرض عَنْ دعوة سيد الفلك لَهُ بالركوب عَلَى متن سفينته، مقرّرا بِذَلِكَ الصمود والمواجهة،
وتحدّي الدمار برفقة الشباب مطمئن النفس والبال – عِنْدَ الإيواء – إِلَى جبل لَا يموت،
عَلَى حدّ تعبير الشاعر، (يسمونه الشعب)…

وَعَلَى
المُسْتَوَى الفني والتخييلي
عمد الشاعر إِلَى توظيف صورة فنيّة كبرى شديدة التركيب والتعقيد هِيَ “الصورة – الأم” من
خِلَالَ اقتباسه قصة نوح عَلَيْهِ
السلام
مَعَ إدخال عَدَدُُ مِنَ التحويرات الفنية الممكنة حَتَّى تستجيب بِذَلِكَ لمتطلبات
التجربة الشعرية الخَاصَّة فِي النص، وما تفرضه الرؤيا الجمالية والتعبيرية من شروط
وأبعاد وخصائص محددة تستدعيها طبيعة المواقف والرؤى المتصارعة فِي النص الشعري، كَمَا
عمد الشاعر أيضًاً فِي إِطَارِ هَذِهِ الصورة الفنية الكبرى إِلَى توظيف واستثمار عَدَدُُ مِنَ
الصور الجزئية (الصغرى) عَلَى نَحْوَ عضوي ومتفاعل؛ كالمجاز المرسل (المدينة تغرق شيئا فشيئاً)، والاستعارة (كَانَ شباب المدينة
يلجمون جواد المياه الجموح – كَانَ قلبي الَّذِي نسجته الجروح – كَانَ قلبي الَّذِي لعنته
الشروح…)، وَمِنْ ثمة نرى أن الشاعر قَد عمد بِوَجْهِ عام فِي عرض هَذِهِ التجربة المثيرة
والحبلى بصراعاتها وتناقضاتها الدرامية إِلَى توظيف قصة نوح عَلَيْهِ السلام؛ سَوَاء تمَّ لَهُ
ذَلِكَ انطلاقا من مرجعيتها التاريخية والدينية القرآنية (سورة الشعراء – الآيتان:
119/120،
سورة هود – الآيات:
36/47..)، أَوْ التوراتية (سفر التكوين – الإصحاحات: 6/9..)… لإدانة سياسة الانفتاح الاقتصادي فِي بلده مصر، والبلاد
العربية عامة، بِكُلِّ مترتباتها وتبعاتها الاجتماعية والإنسانية الكارثية انطلاقا من
سبعينيات القرن الماضي، وبذلك تتفق وتتناسب هَذِهِ القصة (التراثية)، مِنْ خِلَالِ كل
التحويرات “التناصية” الممكنة الَّتِي أدخلها الشاعر عَلَيْهَا، كَمَا تمت
الإشارة إِلَى ذَلِكَ من قبل، مَعَ خصوصيات الموقف والتجربة الفنيين فِي النص الشعري؛
لنلاحظ فِي هَذَا السياق الموقف الفردي الخاص بابن نوح عَلَيْهِ السلام، كَيْفَ صار عَلَى نَحْوَ
درامي تصاعدي ومتدرج موقفا جماعيا يَتَعَلَّقُ بشباب المدينة والشعب ككل. وكَذَلِكَ نلاحظ
كَيْفَ تحوّل هَذَا الموقف من الدلالة السلبية الضيقة – التمرد عَلَى الأب وعصيان أوامره –
إِلَى موقف إيجابي يكشف عَنْ مُسْتَوَى الصلابة والصمود ومواجهة العدو الخارجي، والإخلاص
لواجب الانتماء للجماعة وللوطن وللهوية بمفهومها الشامل والموسّع (الوطنيّة،
القوميّة، الإنسانيّة، الحضاريّة،…).




أَمَّا
عَلَى مُسْتَوَى التركيب اللغوي
والشعري
فِي النص فتجدر الإشارة إِلَى أَنَّ الجمل الفعلية تستجيب – عَلَى نَحْوَ لافت للانتباه – لِهَذِهِ التطورات
والتحولات العنيفة والسريعة الَّتِي تفرضها طبيعة المواقف وردود الفعل المختلفة فِي
النص الشعري نفسه؛ بِحَيْثُ يصل كمّ هَذِهِ الجمل إِلَى مَا يقرب من إحْدَى وثلاثين جملة من
المجموع الكلي لجمل النص الَّتِي يصل عددها إِلَى حدود أَرْبَعِينَ جملة. وَإِذَا كَانَ بمقدور
القارئ أن يسجل ضعف حضور الجمل الفعلية فِي المقطعين الأول والثاني بالقياس إِلَى
المقطع الثالث، فَإِنَّهُ لَا تفوته الملاحظة أَوْ الانتباه إِلَى أَنَّّ الغلبة فِي المقطعين
الأول والثاني لأفعال المضارعة
(المدينة تغرق، تفرّ العصافير، الماء يعلو، العصافير تجلو،…) بالنظر إِلَى المقطع
الثالث الَّذِي يكاد تهيمن عَلَيْهِ أفعال الماضي، أَوْ بالأحرى الَّتِي هِيَ فِي صيغة الزمن الماضي باستثناء الفعل “يرقد”…
وَهُوَ مَا يتفق مَعَ مُسْتَوَى تطور حركة النص الشعري وتصاعدية حركته الدرامية، أَوْ استشرافه
نهاية الصراع الخارجي انطلاقاً من المقطع الثاني.



وَفِي
هَذَا المُسْتَوَى من التحليل تجدر الإشارة كذلك إِلَى مجموع الجمل الإنشائية – عَلَى تعدد أساليبها وتنوع
أشكالها اللغوية – الَّتِي تنامي حضورها النصي انطلاقا من المقطع الثالث، كالآتي: الأمر: (انج من بلد لَمْ تعد فِيهِ
روح)، ثُمَّ الدعاء: (طوبى
لمن طعموا خبزه…)…، غير أن خاصية التعجّب بِكُلِّ مَا يستلزمه من إيحاءات وأبعاد دلالية مختلفة تفيد فِي
مجملها نبرات تهكم وتشكيك وفقدان لِكُلِّ وثوقية أَوْ يقين مدّعى فِي عَدَدُُ مِنَ المواقف
وردود الفعل الَّتِي يتطلّبِهَا التطور الدرامي فِي النصّ الشعري، بِحَيْثُ تبقى علامة
التعجّب لصيقة – عَلَى نَحْوَ لافت للانتباه – بنهايات عَدَدُُ مِنَ الجمل الشعرية. كَمَا نشير
ضمن هَذَا المُسْتَوَى النحوي – البلاغي ذاته إِلَى أسلوب “الالتفات” (… بَيْنَمَا كُنْت…/ كَانَ شباب
المدينة/ يلجمون جواد المياه الجموح…) حَيْتُ انتقل الشاعر بموجبه من ضمير المتكلم المفرد (كُنْتُ…)
إِلَى ضمير الغائب المفرد
(كَانَ…)، وَهِيَ لمحة فنية بارعة يتسنى للشاعر مِنْ خِلَالِهَا الكشف عَنْ طبيعة العلاقة الَّتِي
تربط بَيْنَ الطرفين (الشاعر/ الذات الفردية، وشباب المدينة، الشعب/ الذات الجماعية)،
ومستوى الوحدة أَوْ حميمية الصلة الَّتِي تحدد نهجهما الصامد والمقاوم لفداحة الخطر القادم،
وإدراكهما مَعًا حق الإدراك ضرورة الممانعة ووجوب التضحية.


وبالنظر
إِلَى الجانب الإيقاعي
للنص الشعري ومحاولة تعرف خصائصه الموسيقية والتعبيرية المختلفة تستوقفنا مجموعة
من الانتهاكات الفنية للشاعر، وحرصه الملحوظ عَلَى تكسير البنية التقليدية للقصيدة
العربية العمودية؛ بِحَيْثُ يكشف الشكل الطباعي للنص ونظام توزيع أسطره الشعرية عَنْ
خاصية التدوير الَّتِي
تلحق نهايات عدد کَبِير مِنْهَا.

ويقوم وزن هَذِهِ الأسطر وأجزاء
النص الشعري ككل عَلَى تكرار تفعيلة المتدارك

(فاعلن) بتنويعاتها
المختلفة (صحيحة، مخبونة، مقطوعة)، كَمَا أن خاصية التدوير الَّتِي تتوزع فِيهَا هَذِهِ
التفعيلة بَيْنَ سطرين متتاليين تسمح للشاعر بتكسير الوقفة العروضية الَّتِي ظلت من الثوابت
الإيقاعية فِي القصيدة التقليدية. وهكذا يحقق الشاعر، فَضْلًاً عَنْ تكسير الوقفة الدلالية الَّتِي
يتوقف فِيهَا تمام المعنى فِي سطر معين عَلَى السطر الَّذِي يليه، جريانا إيقاعيا وتواصلا
دلاليا وتركيبيا بَيْنَ مختلف أجزاء النص وأسطره الشعرية، مِمَّا يمكن من التعدد والتنوع
النغمي والموسيقي فِي إِطَارِ الوحدة الفنية والعضوية للنص ككل. أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ القافية والروي فقد تخلى
الشاعر عَنْ صرامتهما التقليدية ووجوب وحدة حروفهما المعهودة فِي القصيدة العمودية
بِوَجْهِ عام؛
بِحَيْثُ حرص عَلَى أن يشكلا مَعًا أنظمة متداخلة ومتفاعلة تستجيب فِي ذَلِكَ
لتبدّل المواقف وتطور الصراع الدرامي واختلاف ردود الأفعال المتناقضة فِي النص
الشعري (.. يعلو/… تجلو….الحصينة/ حزينه/… السفينهْ…).



وَعَلَى
مُسْتَوَى الإيقاع الداخلي
تستوقفنا خاصيتا التكرار
والتوازي
، كَمَا هُوَ الحال بِالنِسْبَةِ للأمثلة التالية:


تكرار الحروف والأصوات:
الجيم، التاء، الراء، الهاء،… الَّتِي تغلب عَلَيْهَا صفة الجهارة؛


تكرار الألفاظ والكلمات:
شيئًا فشيئا (س
6)، رويدا رويدا (س 11/12).


تكرار العبارات والجمل:
جاء طوفان نوح (س
1/18/25..).


تكرار نفس الخطاطة الصرفية – التركيبية
(التوازي) عَلَى مسافة
زمنية محددة مِمَّا يغني مُسْتَوَى التناسب الصوتي والتناغم الإيقاعي فِي النص الشعري،
كالآتي: (هاهم الحكماء يفرون نَحْوَ السفينه/ هاهم الجبناء يفرون نَحْوَ السفينة) س:
18/26.

هَكَذَا زاوج الشاعر بَيْنَ مستويات
التشكيل الإيقاعي الموسيقي والتشكيل الفني التصويري فِي الخروج بالنص الشعري العربي
الحديث عَنْ إسار القصيدة القديمة وصرامة عمودها التراثي التقليدي لِتَحْقِيقِ فرادة إبداعية
وشعرية خاصة.



لَا يُمْكِنُنَا فِي نهاية هَذَا التحليل
إلَّاّ أن
نقرّ بِأَنَّّ الشاعر أمل دنقل قَد استطاع فِي هَذَا النص (مقابلة خاصة مَعَ ابن
نوح)، وَعَلَى نَحْوَ فني مبتكر ومثير، التمرد عَلَى سلطة الثوابت التقليدية للشعر العربي
القديم، وَمِنْ ثمة تكسيره لبنيته الفنية والجمالية الجاهزة والمتكررة عبر مختلف
الحقب والعصور؛
بِحَيْثُ عمد الشاعر عَلَى مُسْتَوَى الشكل الخارجي للنص إِلَى الخروج
عَنْ نظام الشطرين، والتزام السطر الشعري المتفاوت من حَيْتُ الطول والقصر، مكسّرا بِذَلِكَ
صرامة الوقفة العروضية، واستغلال مختلف أشكال البياض وأدوات الترقيم المتعددة،
فَضْلًا عَنْ اعتماده موضوعات غير مطروقة من قبل (قصة نوح عَلَيْهِ السلام/… رفض وإدانة
سياسة الانفتاح الاقتصادي فِي مصر والبلدان العربية)، واستلهامه فِي ذَلِكَ – عَلَى سبيل
التناص – مرجعيات تاريخية ودينية، موظفاً ذَلِكَ كله فِي صورة فنية كبرى مركّبة وشديدة
التعقيد تضمّ فِي إطارها مجموعة من الصور الجزئية (الصغرى) المتضافرة أَوْ المتفاعلة
فِيمَا بينها… وبذلك حقق الشاعر الوحدتين: الموضوعية والعضوية لنصه الشعري، من دون
أن تفوتنا الإشارة فِي هَذَا الصدد إِلَى حرصه عَلَى توظيف لغة واضحة وبسيطة تميل إِلَى حسن
الاقتضاب والإيجاز مقتربة فِي ذَلِكَ من لغة المعيش اليومي المألوف، لكنها – عَلَى العموم
– لغة شديدة الكثافة والإيحاء الدلاليين مَعَ نبرة عميقة ملحوظة لَا تخلو من السخرية
والتهكم اللاذعين. أَمَّا من حَيْتُ الإيقاع الخارجي فقد عمد الشاعر فِي هَذَا النص إِلَى توظيف
نظام التفعيلة العروضية، وما يَتَعَلَّقُ بِهَا من زحافات وعلل ممكنة، فَضْلًا عَنْ خاصية
التدوير وما تفيده من جريان وتدفق إيقاعي بِسَبَبِ حرص الشاعر عَلَى تكسير الوقفة
العروضية التقليدية، وكَذَلِكَ توظيفه – عَلَى مُسْتَوَى الإيقاع الداخلي للنص الشعري –
المدود الصوتية، ومظاهر التكرار والتوازي المتعددة مستجيبا فِي ذَلِكَ لخصوصيات الموقف
الشعوري ومتطلباته الدرامية والتعبيرية المختلفة.




وَعَلَى
العموم، فَإِنَّّ الشاعر قَد قَدّم مِنْ خِلَالِ هَذَا النص نموذجاً متميّزا لتكسير البنية فِي
القصيدة العربية المعاصرة، وهذا يجعل مِنْهُ مرجعاً مهما للقارئ للاستدلال عَلَى مظاهر
التغير والتبدل الَّتِي لحقت المستويات الفنية لِهَذِهِ القصيدة. وَإِذَا أضفنا إِلَى تكسير البنية طبيعة الرؤيا الَّتِي
يعبّر عَنْهَا النص، أدركنا مَدَى مساهمة أمل دنقل فِي تجذير الشعر العربي فِي تربة
الحداثة، مِمَّا يجعل مِنْهُ رائداً من رواد القصيدة العربية المعاصرة.

.

عَنْ الموقع

ان www.men-gov.com مِنَصَّة مُسْتَقِلَّة شاملة وحديثة تواكب كل مواضيع التدريس والتوجيه وَالتَعْلِيم وَكَذَا اعلانات الوظائف بالمغرب,وَتَضَمَّنَ كذلك مجموعة من الخدمات والوسائل التعليمية التربوية الَّتِي تبسط وتشرح الأشياء الَّتِي يحتاجها التلميذ والطالب و الأستاذ والمدير والباحث عَنْ فرص الشغل سَوَاء كت تابعة لمؤسسات الدولة اوغير تابعة لَهَا ، وَتَجْدُرُ الاشارة إِلَى ان هَذِهِ المنصة لَا تمت باي صلة لِوِزَارَةِ التربية الوَطَنِية والتَّكْوين المهني وَالبَحْث العلمي واي مؤسسة وطنية اخرى.
يستفيد سنويا من منصتنا أكثر من 25 مليون زائر وزائرة من جميع الفئات العمرية .
تمَّ الحرص فِي men-gov.com عَلَى 4 توابت اساسية :
ـ جودة المضامين المنشورة وصحتها فِي الموقع
ـ سلاسة تصفح الموقع والتنظيم الجيد مِنْ أَجْلِ الحصول عَلَى المعلومة دون عناء البحث
ـ التحديث المستمر للمضامين المنشورة ومواكبة جديد التطورات الَّتِي تطرأ عَلَى المنظومة التربوية
ـ اضافة ميزات وخدمات تعليمية متجددة
لمدة 3 سنوات قدمنا اكثر من 50000 مقالة وازيد من 200 ألف مِلَفّ مِنْ أَجْلِ تطوير دائم لمنصتنا يتناسب وتطلعاتكم, والقادم أجمل إن شاء الله.
⇐ المنصة من برمجة وتطوير men-gov.com وصيانة DesertiGO
⇐ يمكنك متابعتنا عَلَى وسائل التواصل الاجتماعي ليصلك جديدنا: اضغط هُنَا

À propos du site

men-gov.com est une plate-forme indépendante complète et moderne qui suit le rythme de tous les sujets d’enseignement, d’orientation et d’éducation, ainsi que des offres d’emploi au Maroc, et comprend également un ensemble de services et de méthodes éducatives qui simplifient et expliquent les choses qui répondent aux besoins de l’étudiant, du professeur, du directeur et du chercheur d’emploi, privé ou public, Il est à noter que cette plateforme n’est pas reliée au ministère de l’Éducation nationale, et de la Formation professionnelle et de la Recherche scientifique, et à tout autre institution.
Chaque année, notre plateforme profite à plus de 25 millions de visiteurs de tous âges.
Sur men-gov.com, nous avons pris en charge 4 principes:
Qualité et exactitude du contenu publié sur le site
Navigation fluide du site et bonne organisation afin d’obtenir des informations sans prendre la peine de chercher
Mise à jour continue du contenu publié et se tenir au courant des nouveaux développements du système éducatif
Ajout de fonctionnalités et de services éducatifs renouvelables
Depuis 3 ans, nous avons fourni plus de 50 000 articles et plus de 00 000 fichiers pour un développement permanent de notre plateforme qui correspond à vos aspirations, et le suivant est plus beau, si Dieu le veut.
⇐ Plateforme développée par DesertiGO et maintenue par men-gov.com
⇐ Vous pouvez nous suivre sur les réseaux sociaux pour recevoir nos actualités: cliquez ici multi-mnhjyti-com

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *